Skip to content


نادي القلم الأميركي يصنّف المضايقة على الإنترنت كتهديد واضح لحرية التعبير

بقي الأشخاص في بعض الأوساط، لسنوات عديدة، يصرفون النظر عن المضايقات على الإنترنت، على اعتبار أنها أقل واقعيةً وضرراً من المضايقات التي تحدث “في العالم الحقيقي”. لكن، في الآونة الأخيرة، وبعد جهود وضغوطات دؤوبة مارسها من يتحمّل العبء الأكبر من هذه المضايقات- أي النساء، والناشطين المعارضين، والصحافيين المستقلين، ومجموعات الأقليات الدينية، وغيرها- بدأت شركات وسائل التواصل الاجتماعي والجمهور يأخذون بشكل أوسع هذه القضية على محمل الجدّ.

واليوم، أصبح هناك اعتراف متزايد بأنّ المضايقة عبر الإنترنت تؤثّر على حرية تعبير الأشخاص المستهدفين، وسبل معيشتهم، وصحتهم النفسية والجسدية. في الواقع، ما زالت حرية التعبير مهدّدة في المنطقة، حيث يواجه المواطنون/ات، والناشطون/ات، والصحافيون/ات عدة أشكال من المضايقة على الإنترنت كل يوم. بالفعل، انبثقت المضايقات الإلكترونية برعاية الدول– أو الإساءات المدعومة، بشكل رسمي أو غير رسمي، من حكومة أو نظام أو حتى ميليشيات سياسية قوية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، كتهديد مشروع هدفه خنق حرية تعبير الناشطين والصحافيين العاملين على بناء عمليات ديمقراطية، أو المشاركة فيها، في مختلف أنحاء المنطقة.

نظراً إلى النتائج الجلية التي تخلّفها المضايقات الإلكترونية المدعومة من الدولة وغيرها من أشكال الإساءة عبر الإنترنت، بات من الواضح أنّ الهجمات الإلكترونية تمتدّ إلى العالم غير المتّصل بالإنترنت أيضاً. ينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الأشخاص الذين يتمّ زجهم في السجون بشكل تعسّفي على يد جهات تابعة للدولة، أو يتلقون تهديدات مباشرة ومحدّدة بالعنف الجنسي، أو الأذى الجسدي، أو حتى الموت، فضلاً عن أولئك الذين يتمّ نشر معلوماتهم الشخصية بدون موافقتهم (أو ما يُعرف باستقاء المعلومات الشخصية).

في هذا السياق، يُعرب نادي القلم الأميركي، بصفته منظمةً حاضنةً للكتّاب، عن قلقه خاصةً بشأن الطرق التي تؤثّر عبرها المضايقات الالكترونية على عمل الكتّاب. فقد خلصت دراسة عالمية أجرتها منظمة اليونيسكو والمركز الدولي للصحافيين أنّ %23 من الصحافيات تقريباً أفدن أنهنّ تعرّضن لمضايقات على الإنترنت شملت تهديدات ضدّ مراكزهن المهنية، وأدّت إلى منعهنّ من ممارسة عملهنّ.  من هنا، يمكن أن ترغم المضايقات على الإنترنت الصحافيين على الامتناع عن نشر أعمالهم، والالتزام بمبدأ الرقابة الذاتية، وحذف حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل دائم، أو الخوف على سلامتهم وسلامة أحبّتهم و/أو اختيار المنفى طوعاً لحماية أنفسهم وأحبّتهم. في الواقع، لقد أثبتت آثار المضايقة الإلكترونية على عمل الصحافيين والناشطين أنها عقبة رئيسية أمام ممارسات حرية التعبير والمدافعة عن حقوق الإنسان التي تخدم عادةً المسيرة المهنية لهؤلاء الأفراد وأهدافهم الشخصية.

عندما يكفّ الأشخاص عن تعبير برأيهم والكتابة عن مواضيع محدّدة بسبب الخوف من الانتقام، يخسر الجميع. فالقدرة على تقديم معلومات وتلقيها بحرية- مثلاً لصياغة حجة، أو قراءة وجهة نظر شخص آخر أو تجربته الشخصية، أو عرض بيانات جديدة أو فكرة مميّزة غيّرت تفكيرك ويمكن أن تغيّر تفكير شخص آخر أيضاً- كل ذلك يشكّل جزءاً لا يتجزأ من حرية التعبير.

في البيئات التي لا تكون فيها حرية التعبير أمراً مسلّماً به، يشكّل الفضاء الإلكتروني ملاذاً آمناً للصحافيين المستقلين والناشطين، حيث يمكنهم التعبير عن رأيهم والإبلاغ عن قضايا الظلم، خاصةً الظلم الذي تتعرّض له المجموعات المهمّشة. بالإضافة إلى ذلك، تُلحق المضايقة على الإنترنت ضرراً مباشراً بحرية تدفق المعلومات، من خلال ثني الأشخاص عن المشاركة في المناقشات العامة. فيتمّ استهدافهم لا بسبب ما يكتبونه وينشرونه على الإنترنت فقط، بل في أغلب الأحيان لمجرّد أنهم أعضاء جريئون من فئة معيّنة، لا يتوانون عن التعبير عن رأيهم. وتصل المشكلة إلى أسوأ حالاتها عندما يحاول هؤلاء الأشخاص التفكير في المسائل الأكثر تعقيداً وإلحاحاً وإثارةً للجدل التي تواجه المجتمع: كالمسائل المتعلقة بالسياسة، والإثنية، والدين، والسياسات العامة، وحقوق المجموعات المهمّشة، والمعايير الاجتماعية.

أظهرت الدراسات أنّ الأشخاص المنتمين إلى مجموعات مهمّشة، كالنساء مثلاً، أكثر تعرّضاً لأشكال أكثر حدّة من التحرّش السيبراني، على نحوٍ يؤثّر على حياتهم الشخصية ويؤدي بهم إلى معاناة نفسية وعاطفية. وبالتالي، قد يبدي الأشخاص الأكثر اختباراً لآثار التحرّش الجنسي ضد المرأة مثلاً، أو لحملات القمع التي تقودها الحكومات ضد ناشطي المعارضة، تردّداً حيال التنديد بهذه المشاكل على الإنترنت، حيث يجري اليوم القسم الأكبر من المناقشات العامة. وهذا الأمر هو أحد القيود غير المقبولة المفروضة على الخطاب العام على الإنترنت. فما من أحد مضطر لخوض تهديدات بالموت، أو لافتضاح عنوان سكنه على الإنترنت، أو لوابل من الإساءات لمجرّد مشاركته في مناقشات عامة. يجب أن نجعل المساحات العامة مكاناً رحباً يتّسع لجميع الآراء.

غير أنّ محتدم الخط الفاصل بين المضايقات والنقاش، لكل المشروع، قد يكون مبهماً. صحيحٌ أنّ التهديدات، واستقاء المعلومات الشخصية ونشرها، والتعقب السيبراني، أمور مخالفة للقانون في أغلب الأحيان، لكن هناك أنواع أخرى من المحتوى المهين، أو المخيف، أو المسيء، التي تحميها قوانين مختلفة لحرية التعبير حول العالم. في هذا الإطار، يمكن للمنصات الإلكترونية التي تطبّق قواعدها المجتمعية الخاصة أن تضيّق ضوابط الخطاب المسموح به على وسائل التواصل الاجتماعي، لا بل بعضها قام بذلك فعلاً. لكنّ هذه القواعد يمكن لها أيضاً أن تخدم الهدف المشروع بجعل هذه المنتديات مفتوحةً أمام جميع الزائرين، فتمنع التهديدات، واستقاء المعلومات الشخصية ونشرها، وغيرها من أشكال الخطاب المؤذي، من كتم صوت الحوار الحقيقي. مع ذلك، يحذّر نادي القلم الأميركي، بصفته منظمةً تدعو إلى حرية التعبير، من دعوة الشركات الخاصة إلى ضبط الحوار، مقراً بأنّ حضور هذه المنصات الدائم في مناقشاتنا يمنحها القدرة على إسكات الآراء المرفوضة، أو تلك التي لا تلقى تأييداً، بشكل دائم. زد على ذلك أنّ بعض الأشخاص يعبّرون أحياناً عن آرائهم السياسية، أو الدينية، أو أفكارهم بشأن الحياة الاجتماعية، بطريقة قد تُعتبر مهينة للغاية أو مؤذية جداً بالنسبة إلى الآخرين، لكنها لا تصل إلى مستوى من المضايقة أو التحرّش الذي يستدعي حظره أو قمعه. من هذا المنطلق، إنّ مكافحة التحرّش الحقيقي، مع الاستمرار في تأمين حماية متينة لحرية الكلام، حتى وإن كان كلاماً خادشاً، مهمّةٌ تتطلّب تفكيراً متأنياً، وحصافةً في الرأي، وتفاعلاً مع مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة.

صيغ الكتيّب الميداني لنادي القلم الأميركي حول مكافحة المضايقة على الإنترنت لمساعدة الكتّاب والصحافيين في تصفح المساحات الإلكترونية كما هي موجودة اليوم، لا كما نريدها أن تكون. وهو مصمّم لمنحهم الموارد، والأدوات، والنصائح اللازمة لمساعدتهم على التعامل، بشكل آمن وفعال، مع حوادث المضايقة الإلكترونية وخطاب الكراهية، وتشجيعهم على البقاء على الإنترنت، ومواصلة المجاهرة بآرائهم، والاستمرار في الكتابة. من هنا، يتضمّن هذا الكتيّب معلومات شاملة حول كيفية تحسين الأمن السيبراني، وإنشاء مجتمعات داعمة على الإنترنت، ومواجهة الإساءة الإلكترونية بشكل مباشر، واعتماد تدابير الرعاية الذاتية خلال اختبار المضايقة الشديدة. كما يقدّم الكتيّب أيضاً أفضل الممارسات إلى حلفاء الكتّاب والصحافيين، والمؤسسات التي توظّفهم. وعليه، ندعوك إلى التعمّق في كل ما يحمله لك هذا الكتيّب بين صفحاته، فنشر هذه المعلومات على نطاق واسع بين شبكاتك الاجتماعية والمهنية.

لكنّ هذا الدليل الميداني ما هو إلا خطوة أولى. فنحن، وكثيرون غيرنا، لدينا دور نؤديه في الدفاع عن الحريات في وجه المضايقة على الإنترنت.

على شركات وسائل التواصل الاجتماعي تحسين سياساتها المتعلقة بمكافحة المضايقة على الإنترنت. فيمكنها، مثلاً، وضع تصوّر جديد لإجراءات مراجعة قضايا الإساءات المزعومة، وفرض عقوبات مناسبة على المخالفين الذين يرتكبون السلوك المسيء، وتعزيز الشفافية في عملياتها الداخلية، ومنح المستخدمين الذين تمّت معاقبتهم إمكانية الطعن في القرارات الصادرة بحقهم. وعلى وجه الخصوص، ينبغي على تويتر وفايسبوك- كونهما منصّتين بموارد هائلة- تخصيص موارد كبيرة لتدريب أشخاص وتوظيفهم (وعدم الاكتفاء بالطرق القائمة على التعلّم الآلي) لكشف السلوك المؤذي ومراجعته. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تترافق هذه الجهود مع مبادرات لتنويع مراكز القيادة في الشركات التكنولوجية. كذلك، إنّ الاستماع إلى آراء وأفكار الأشخاص الذين عاشوا تجربةً مريرةً ومباشرةً مع المضايقة والتمييز، وبالتالي الذين يفهمون تبعات هذا الأمر، سيثري الطرق التي تعالج عبرها الشركات هذه المشكلات، فضلاً عن الأدوات التي تبنيها لمساعدة المستخدمين، والسياسات التي تطوّرها.

كما يمكن لرؤساء الكتاب في العمل وناشري أعمالهم- بمن فيهم غرف الأخبار، ودور النشر، والمنشورات الرقمية- بذل جهود أكبر لدعم الكتّاب الذين يتعرّضون للمضايقة على الإنترنت، من خلال سنّ السياسات والإجراءات المناسبة لمساعدة الموظفين والعاملين المستقلين أثناء تعرّضهم للمضايقة على الإنترنت. على الصعيد الأدبي، يفرض العديد من الناشرين على كتّابهم المحافظة على حضورهم على الإنترنت، بهدف توسيع نطاق جماهيرهم والترويج لكتبهم. من هنا، ينبغي أن يترافق هذا الشرط مع دعم إضافي في حال تعرّضوا للمضايقة أو الإساءة.

أخيراً، ينبغي على المجتمع المدني إعطاء الأولوية لتطبيق آليات الحماية من المضايقة الإلكترونية. فيشكّل هذا الأمر أحد الشواغل الملحة المتعلقة بحرية التعبير، زد على أنه قد يتسبّب بضرر بالغ ودائم للصحة النفسية والجسدية. من هنا، يجب أن تتضمّن جهود المناصرة التواصل مع الشركات التكنولوجية وشركات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن إجراء أبحاث لتسليط الضوء على أضرار المضايقة على الإنترنت، وتحديد طرق لحماية المستخدمين من التحرّش الإلكتروني، بالإضافة إلى ثني المتحرّشين المحتملين عن ارتكاب فعلتهم.

* * *