عاشت عالمة النفس والأعصاب ليزا فيلدمان باريت تجربتها الخاصة مع التحرّش الإلكتروني بعد أن كانت قد نشرت افتتاحية رأي في وسيلة إعلامية وطنية بارزة. أذهلها الكم الهائل من التعليقات الوحشية التي انهالت عليها والأثر الذي خلّفته عليها وعلى أسرتها، فقامت بما قد يقوم به أي عالم نفسي ماهر: سعت إلى فهم مشاعر القلق التي انتابتها والتخفيف منها عبر دراسة كيفية استجابة عقلها لهجمة التوتّر التي استبدّت بها من هذا المنطلق، ترتكز الصفحات التالية على مقابلات أجريت مع باريت وعلماء نفس آخرين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إنّ فهم طريقة عمل الدماغ والجسد، وكيف يساهمان في نشوء العواطف والأحداث النفسية الأخرى، قد يساعد في التخفيف من القلق، والاكتئاب، والنتائج الأخرى المتأتية عن التوتر الذي ينتابك أثناء التعرّض لإساءة إلكترونية في هذا الإطار، يمكن لعملية البحث عن المعارف، بالإضافة إلى سلسلة من الخطوات الأخرى الهادفة إلى تعزيز آليات دفاع الجسد ضدّ الأمراض النفسية والجسدية، أن تساعدك على مواجهة التحرّش بمزيج من الزخم والعزيمة المتجددة.
صحتك النفسية مهمّة
لا تخجل/ي من الاعتراف بالواقع الذي أحدثه التحرّش الإلكتروني على صحتك النفسية، اعلم/ي أنك لست وحدك في هذا الإطار فقد أفاد 35% من الأشخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنها يواجهون مشاكل متعلقة بالصدمات المتأتية عن تحديات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة في الواقع، أشار المركز الدولي للصحفيين في مقاله حول السلامة النفسية والعقلية أنّ الصحافيين والمدافعين عن حرية التعبير العاملين في البيئات التي تنطوي على تحديات سياسية غالباً ما يواجهون أشكالاً من “الصدمات المتواصلة”، حيث يكون مصدر الألم النفسي حاضراً بشكل مستمر في حياتهم.
صحيحٌ أنّ “شرارات” الصدمات المتواصلة، الجاهزة للاشتعال في أي لحظة، جنباً إلى جنب الأولويات المتضاربة والوصم المجتمعي، قد يمنع الأشخاص من أخذ الصحة النفسية على محمل الجد، لكن هذا لا يثبت أنك لن تتمكّن/ي من إيجاد طريقة للاعتناء بنفسك في خضمّ كل ذلك.
زادت جائحة كوفيد-19 مشاكل الصحة النفسية الحالية سوءاً في مختلف أنحاء المنطقة، كما أدّت إلى تزايد معدّلات التحرّش الإلكتروني (خاصةً بالنسبة إلى النساء) لكن في الوقت نفسه، منحت هذه الجائحة الأشخاص فرصةً لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتحدّث عن أهمية الصحة النفسية، وتعزيز آليات التأقلم الصحية في أوقات العزلة وانعدام اليقين.
في هذا الإطار، تبرز موجة جديدة من التفكير في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بموجبها تحتلّ الصحة النفسية مكانةً لا تقلّ أهميةً عن أي مجال صحي آخر يؤثّر على حياتنا اليومية” فقد وصف أحد المعالجين النفسيين المقيمين في مدى الوعي بأهمية الصحة النفسية اليوم على الشكل التالي:
“في الماضي، كانت احتياجات الصحة النفسية تُعتبر نقطة ضعف أو علامةً على عجز المرء عن التحكّم بنفسه، ومع أنّ الطريق أمامنا ما زال طويلاً، فقد ازداد الوعي بأهمية الصحة النفسية في المنطقة، خاصةً بعد جائحة كوفيد، وازداد استخدامنا للمصطلحات المتعلقة بالصحة النفسية في مفرداتنا اليومية، مثل “محبط”، “قلق” و “متعب نفسياً”.”
افهم/ي ما يحدث لجسدك
لا يخفى على أحد أنّ للكلمات قوة كبيرة وأنّ باستطاعتها ترك تأثير مباشر على جسدك هذه هي حال الجميع، ولا تشكّل البتة علامةً من علامات الضعف” فأجهزة الدماغ التي تتيح لك فهم الكلمات ومعانيها تتولى في الوقت نفسه تنظيم حركة أجهزة الجسم أيضاً- أي معدّل نبضات القلب، والجهاز التنفسي، وجهاز المناعة، والتمثيل الغذائي وما إلى هنالك لهذا السبب، يمكن أن يتسبّب التحرّش الإلكتروني بردّ فعل فيزيولوجي على هذه الدرجة من القوة” فحدّث ولا حرج عن العلامات التي يمكن أن تظهر عليك خلال التعرّض للتحرّش الإلكتروني: من عدم اكتراث، إلى الإعياء، الصداع ، وضيق التنفس، والغثيان، وآلام المعدة، وشعورٌ يصعب وصفه بالمعاناة الجسدية يبرز كلما خطر المتحرّش في بالك. ربّما لا تنفكّ تجربة التحرّش تتكرّر في ذهنك، كحوار تطفلي وغير مرحّب به لا سبيل إلى الفرار منه” ربّما تلوم/ين نفسك، حتى وإن كنت تعلم/ين في قرارة ذاتك أنّ هذه الفكرة منافية للعقل. (نذكّرك: الحقّ ليس عليك.)
أياً كان شعورك- أغضب أم خوف أم إحراج- من الضروري أن تفهم/ي أنّ هذه المشاعر تبدأ كإحساس بسيط من الانزعاج الجسدي الذي لا يندرج بالضرورة ضمن خانة العواطف والانفعالات. فهذه المشاعر البسيطة- التي يسميها العلماء ” بالتأثير”- توجز بشكل سريع ما يجري داخل جسمك من دون التوغل في التفاصيل، لكأنها مقياس للضغط” ولا تكون المشاعر المؤثّرة مزعجة دوماً، بل يمكن أن تكون مريحةً أحياناً في مطلق الأحوال، هذه المشاعر البسيطة هي ما ينتج عن تحكّم الدماغ بأجهزة جسمك، كما إنها ترافقك في كلّ لحظة يقظة من حياتك.
يستخدم دماغك ثلاثة مكوّنات لصنع العواطف والانفعالات، هي: الأحاسيس في جسمك التي تولّد هذه المشاعر البسيطة، ومحيطك، وما تعرفه عن هذه العواطف والانفعالات فإذا تعلّمت كيف تغيّر المكوّنات التي يستخدمها دماغك من أجل صنع العواطف والانفعالات، ستكون أكثر قدرةً على التحكّم بها لئلا تتحكّم هي بك.
حاول إغناء “مفرداتك العاطفية” لمناقشة قضية التحرّش الإلكتروني.
كلما كنت أكثر دقةً في وصف تجربتك العاطفية لدى تعرّضك للإساءة على الإنترنت، أصبحت أفضل حالاً لذا إنّ اكتساب كمية أكبر من المفردات سيمنحك مجموعةً أوسع من الأدوات للتأقلم مع الأحداث الباعثة على التوتّر: فلا يخفى على أحد أنّ اللغة هي مصدر للاستمرارية والمواجهة، وبالتالي من المفيد أن تحدّد/ي العواطف التي تختبرها بالاسم، وتعبّر/ي بوضوح عن أشكال التحرّش التي تتعرّض/ين لها.
اقرأ/ي عن مختلف أشكال التحرّش الإلكتروني الموجودة، وقصص الأشخاص الكثر الذين تأثّروا بها، وتسلّح/ي بمفردات غنية يمكن أن تفيدك في فهم هذه الظاهرة التي غالباً ما تكون محيّرة” أما إذا كنت تريد/ين الاستماع إلى مقابلات مع أشخاص يتعاملون مع التوتر والإجهاد، فعليك بالاستماع إلى تسجيلات البودكاست المذكورة في نهاية هذه الصفحة من دليلنا.
ما هي بعض الأمور التي يمكن أن أقوم بها للتأقلم مع أي مشاعر مزعجة؟
- احرص/ي على نيل قسط من النوم الصحي
لا شكّ في أنّ النوم هو أساسي للمحافظة على الصحة الجسدية والنفسية. فإذا نعمت بليلة من النوم الهادئ، سيُسهّل على دماغك للمحافظة على توازن جهازك العصبي أما العكس، فقد يؤدي إلى شعور بالضيق والانزعاج الجسدي، مما قد يزيد من احتمال عودة الذكريات المُجهدة، ومن الأنشطة الأخرى التي تسهّل على دماغك المحافظة على توازن جهازك العصبي التنعم بأشعة الشمس، وممارسة التمارين الرياضية، وتناول وجبات كافية وصحية.
إذا كنت تواجه/ين مشاكل أرق، عليك باستشارة طبيبك، فآخر ما تحتاج/ين إليه هو الإصابة بمرض جسدي أثناء تعرّضك للتحرّش الإلكتروني، جرّب/ي تطبيقات هاتفية تشجع على اعتماد عادات نوم صحية، مثل توازن.
- حاول/ي تغيير الأجواء
تخطر بعض الأفكار في بالك بسهولة أكبر نتيجة المواقف اليومية التي تتعرّض/ين لها، لكن من الطرق التي تساعدك على تغيير أفكارك هي تغيير السياق الذي تعمل/ين فيه أما السبيل إلى القيام بذلك فمن خلال الخروج للتنزه أو لممارسة رياضة الجري، أو التأمّل في التفاصيل المحيطة بك مثلاً، حاول/ي ملاحظة طريقة تمدّد السحب في السماء، أو اللون النابض بالحياة لزهرة جميلة، أو حتى الأعشاب المنبثقة من صدع في الرصيف، تمنحك كل هذه التفاصيل فرصةً لاختبار مشاعر الروعة تجاه جمالية الأشياء، كما تمنح جسمك فرصة الاستراحة من أعباء الحياة اليومية.
- التمس/ي الدعم الاجتماعي
البشر كائنات اجتماعية، فنحن نساعد على ضبط الأجهزة العصبية لبعضنا البعض بالفعل، يمكن لعناق أو لكلمة لطيفة من صديق أن يعطي جسدك الدعم الذي كان بحاجة ماسة إليه،صحيح أنّ قضاء وقت مع أقربائك لن يحميك من كل المشاعر السيئة، لكنه قد يخفّف عنك المضايقات التي قد تفضي لاحقاً إلى إصابتك بالقلق والأمراض الجسدية.
ومن المفيد جداً أيضاً التحدّث مع أشخاص تعرّضوا بدورهم للتحرّش الإلكتروني، فقد تجد/ين في أفكارهم المتعمّقة العزاء والسلوان الذي كنت تنشده، اعلم/ي أيضاً أنه لا بأس إذا كنت متردّداً/ة بشأن التحدث مع أفراد أسرتك أو أصدقائك عن مشاعرك، خاصةً إذا كنت تشكّ/ين في أنهم يلصقون الوصم بالصحة النفسية. حاول/ي التواصل مع أصدقائك الموثوقين الذين تعرف/ين أنهم يحيطونك بدعمهم، أما إذا كنت غير مرتاح/ة إلى التحدّث معهم أيضاً، فحاول/ي أن تكتب/ي رسالةً إلى نفسك تعبّر/ين فيها عن مشاعر الطمأنينة، والتعاطف، والرأفة. في نهاية الأمر، أنت أدرى بمصلحتك.
راجع/ي قسم المجتمعات الداعمة في هذا الكتيّب الميداني للاطلاع على المزيد من النصائح حول كيفية تكوين مجتمعات داعمة والاستفادة من خدماتها.
راجع/ي قسم كيفية الاعتناء بنفسك بشكل أفضل في هذا الدليل إذا كنت لا تشعر/ين بالراحة للتحدّث عن مشاعرك مع أصدقائك وأقاربك.
- خذ/ي استراحةً من أجهزتك الإلكترونية ولا تستخدم/ي هاتفك أو حاسوبك قبل النوم
لا يخفى عليك أنّ تردّدات الضوء الصادرة عن الأجهزة الإلكترونية تعزّز الشعور باليقظة، وتؤثّر على الساعة البيولوجية الطبيعية للجسم، لذا، ضع/ي أجهزتك جانباً قبل ساعة من موعد نومك على الأقل، وانعم/ي بليلة نوم هانئة، يمكنك أيضاً أن تطلب/ي من أصدقائك أو أفراد أسرتك الموثوقين مراقبة حساباتك وتوثيق ما يجري في حال شهدت أي تصعيد.
على سبيل المثال، قرّرت الصحافية البحرينية وفاء العمّ تجاهل المتصيدين على حسابها عبر تويتر، وإطفاء هاتفها في إحدى المرات التي تعرّضت فيها للتحرّش الإلكتروني. يومها، أمطر المتصيّدون صفحتها بتعليقات مسيئة ومتحيّزة ضد المرأة، قائلين: “ابقي في المطبخ” و”كفّي عن مناقشة السياسة والقضايا الاجتماعية”، شعرت وفاء أنها ليست مضطرة إلى استيعاب كل هذه الرسائل المؤذية في داخلها، وفضّلت وضع حدّ لها من خلال اختيار أخذ استراحة من أجهزتها الإلكترونية.
إذا فشلت كل الطرق الأخرى، كن رؤوفاً/ة بنفسك.
قد يستحيل عليك التحكّم بمشاعرك. إذا صحّ ذلك، لا تقاوم/ي ما تشعر/ين به، اترك/ي مشاعرك تجتاحك من دون أي أحكام مسبقة، وتذكّر/ي أنّ غداً يوم آخر.
في بعض الأحيان، قد يكون من الصعب علينا بعض الشيء أن نعترف بالمشاعر القاسية بمفردنا، لكنك لست وحدك! يمكنك طلب المساعدة من معالج نفسي موثوق أو العمل على تحسين استراتيجية الاعتناء بالنفس خلال الأوقات الصعبة.
لمزيد من القراءات، طالع/ي: